بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وإعلان الإدارة الأمريكية عن حرب لا هوادة فيها على الإرهاب كان الخطاب الأمريكي للمنتظم الدولي واضحا إن الذي لا يصطف إلى جوار أمريكا في حربها الكونية التي أزمعت خوضها لن يكون غير إرهابي يقف في الفسطاط الآخر ، خطاب أمريكا هذا كان يصدر عن شعور عميق بالتفوق والهيمنة وإحساس واهم بالقدرة على تحديد مصير العالم والواضح أن مفهوم الإرهاب كما حددته الإدارة الأمريكية المحافظة يومها اتسع ليشمل حتى المحايدين الذين يرفضون التحالف معها مهما كانت أعراقهم أو دياناتهم ،كان المغرب حينها يشهد مدا دينيا عاتيا ولعل خروج الملايين من الناس إلى الشوارع للتعبير عن رفضهم لخطة إدماج المرأة في التنمية ثلاث سنوات قبل الأحداث مثل مؤشرا قويا على تنامي الوعي الديني وقوة تجذره في المجتمع مما حذا بوزير الأوقاف في ذلك الحين إلى القول بأن الحكومة القادمة ستكون ملتحية .
وسيعبر مسؤولون كبار في الدولة عن تخوفهم من هذا المد ومنهم على سبيل المثال العنيكري الذي صرح لإحدى الجرائد بأن الجيش مستعد للنزول إلى الشوارع لمنع هيمنة الإسلاميين على المشهد السياسي، هذه المعطيات ستفسر إلى حد كبير أسباب اصطفاف المغرب بجوار أمريكا في حربها على الإرهاب فقد التقت المصالح على وجوب تجفيف منابع الإرهاب بمفهومه الأمريكي ولا بد من الإشارة هنا على أن الإرهاب إنما كانت تقصد به أمريكا كل أشكال الممانعة لمشاريعها الإمبريالية وطموحاتها في الهيمنة على مقدرات الشعوب ولا شك أن التيارات الدينية واحدة من أهم التيارات الممانعة للأحلام التوسعية الأمريكية وهو ما عبر عنه صامويل هنتنجتون في كتابه عن صدام الحضارات ، وقد بادر المغرب إلى شن حملات اعتقال غير مبررة في صفوف أبناء التيار السلفي بعيد الحادي عشر من سبتمبر وهنا لا بد من الإجابة عن سؤال يكتسي درجة عالية من الأهمية لماذا التيار السلفي تحديدا دونا عن باقي التيارات؟
لابد من الإشارة هنا إلى أن مختلف التنظيمات والتيارات الإسلامية العاملة في الساحة تنقسم إلى كتلتين تبدوان متجانستين في أذهان عامة الناس وهما خلاف ذلك فهناك الأنوية الصلبة لهذه التنظيمات والحركات الدعوية وهناك المتعاطفون الذين يمثلون السواد الأعظم في هذه الحركات ، وحيث أن معظم المغاربة يجدون الخطاب الديني أقرب إلى فطرتهم وهويتهم فإن درجة اقترابهم من هذه الحركة أو ذلك التنظيم تتفاوت على حسب مواقفه من القضايا التي تشغل بالهم وهم مهيؤون دائما للانتقال من جماعة إلى أخرى أو من تيار لآخر،ومع استشراء الفساد وتغول الاستبداد فإننا لا نجانب الصواب إذا قلنا أن اقتراب الناس يزداد كلما زادت ممانعة هذه الحركات فالناس بالفطرة يدركون أن الحق والباطل لا يجتمعان في صعيد واحد والأجهزة التي أشرفت على تفكيك التيار السلفي وتقليص حضوره تدرك هذه الحقيقة وتدرك أن ممانعة التيار السلفي قد عززت حضوره داخل بنى المجتمع المغربي، ومعلوم أن خطاب السلفيين لم يجتذب آلاف الأتباع عبثا ولكنه وافق فطرة المغاربة وأزاح ركاما هائلا من الشبهات التي علقت بأذهانهم عقودا من الزمان فسرى تأثيره بين الناس سريان النار في الهشيم ، وإن كان تماهي الخطاب السلفي مع الثقافة المغربية الأصيلة قد شكل عامل جذب للأنصار والأتباع في معظم المدن المغربية فإن عمل الدعاة وطلبة العلم المنتسبين لهذا التيار لم يخل من ثغرات وعثرات وهي الثغرات ذاتها التي سيستفيد منها المخزن ليس لتصفية السلفيين وحدهم بل للإجهاز على تيار الصحوة برمته حيث لم تقتصر الاعتقالات الجائرة على النواة الصلبة للتيار بل طالت المتعاطفين ومن يمت لهم بصلة ولعل أخطر هذه الثغرات إطلاقا تلك العشوائية التي طغت على عمل الدعاة والعلماء فإنه كان من اليسير أن يفتعل أي حادث حينها ويؤخذ الجميع بجريرته وتبعاته ما دام كل واحد كان يتحرك من منطلق تصوره الضيق لما ينبغي أن يكون عليه العمل الدعوي دون استحضار الظروف الدولية التي أرخت بظلالها على العالم بأسره حينها ودون استحضار أهمية هيكلة التيار في تحصينه وفي حماية أفراده من المكر السيء الذي كان يحيط بهم إحاطة السوار بالمعصم .
كان لا بد من تهيئة الرأي الوطني والدولي للمعركة المزمع خوضها ضد التيار السلفي ومن ثم نشطت بعض الأدوات الإعلامية المسخرة في الترويج لمسمى “السلفية الجهادية ” بالمغرب ، وإذ لا ننكر أننا سلفيون نعتز بانتمائنا للمنهج السلفي فلا بد من توضيح ملابسات طفو هذه التسمية على السطح ، مادام كل أبناء التيار السلفي في ذلك الحين لا ينتسبون لتنظيم بعينه أو حركة بعينها لقد لفت تغلغل السلفيين في أوساط كل الشرائح الاجتماعية انتباه العام والخاص ، وأثار التفاف الناس حولهم الكثير من علامات الاستفهام خاصة وأن دعوتهم قد بلغت أماكن عادة ما كانت توصف عند الأمنيين بالبؤر السوداء للجريمة ، ومع حاجة الناس في تلك المناطق إلى بعض الرعاية والاهتمام فإن التيار الأقرب إليهم يومها كان تيار السلفيين ، الذين اضطلعوا بالكثير من الأدوار الاجتماعية والخيرية من قبيل إنشاء المساجد وتوزيع الأضحيات في الأعياد وكفالة الأيتام ومساعدة المحتاجين فضلا عن تحفيظ القرآن ونشر الدعوة ،ومع حاجتهم أيضا إلى الأمن والحفاظ على أبدانهم وممتلكاتهم فقد دعت الحاجة إلى تكوين وداديات للأحياء أذكر أن بعض الإخوة ممن لا زالوا قابعين اليوم داخل السجون دعوا إلى إنشائها من قبل أجهزة الأمن والأجهزة المنتخبة لم نكن ندري يومها أن أمرا ما قد دبر بليل وأن استدراج أبناء التيار إلى تطهير الأحياء الهامشية من الجريمة ليس سوى مقدمة للإجهاز عليه ولممارسة مزيد من التضييق على الإسلاميين خاصة والمغاربة عموما
إن تيار السلفيين يومها كان يضم ثلة من العلماء وطلبة العلم والشباب المتدين ممن لا يجمع بينهم انتساب لحزب أو جماعة وكانت غاية معظمهم نشر التدين الصحيح وإعادة قراءة واقع الأمة على ضوء التوجيهات الشرعية وبفهم السلف الصالح ، وهنا تجدر الإشارة إلى أن فرضية حدوث بعض الأخطاء من قبل بعض الأفراد تظل واردة ما دام الرابط بين الآلاف من أبناء التيار السلفي هو الغاية والهدف لا أكثر فلم تكن هناك أوامر تصدر عن أشخاص بعينهم أو عمل منظم يقوده شخص بعينه إنما كانت هناك اجتهادات فردية في الدعوة وفي خدمة الناس كل حسب استطاعته وقدراته ، وللإنصاف أقول إن الشباب الذين اضطلعوا بمهام حماية الناس وممتلكاتهم في الكثير من بؤر الجريمة المعروفة بالمدن المغربية قد استطاعوا وفي ظرف وجيز أن يعيدوا الطمأنينة إلى النفوس وهذا ما يستطيع أي صحفي نزيه أو باحث متجرد من الرواسب الإديولوجية أن يتأكد منه بزيارة هذه الأحياء وسؤال أهلها عن تلك الفترة .
إنني بسرد هذه الحيثيات لا أسعى إلى تبرير موقف بقدر ما أسعى إلى تقرير حقائق عشتها كما عاشها غيري من الذين لا يزالون خلف القضبان إلى حدود الساعة ، وهنا أشير إلى أن محاصرة التيار السلفي لم تتم دفعة واحدة وإنما جاءت على مراحل أستطيع تقسيمها إلى ثلاث مراحل تبعا لشدة التضييق وضراوة الوسائل المستخدمة في الحد من نشاط الإخوة إضافة إلى مدد الأحكام التي وزعتها عليهم المحاكم المغربية
وقد اتسمت المرحلة الأولى باعتقالات انتقائية كان الهدف منها تهيئ الرأي العام وإقناعه بوجود تنظيم يحمل اسم السلفية الجهادية وقد وظفت لهذه الغاية صحف مستقلة وأخرى حزبية فضلا عن وسائل الإعلام العمومي المرئية غير أن الأحكام في حملة الاعتقال هاته لم تكن قاسية ، وقد تلتها مرحلة تهدئة تم فيها إعداد قوائم بأسماء المتعاطفين مع التيار السلفي أو كل من له صلة بالسلفيين
وألفت الانتباه هنا إلى أن الحملات الإعلامية على التيار السلفي لم تكن لتتوقف وإن كان ليس مستهدفا لذاته وإنما المستهدف الحقيقي هو تيار الصحوة ككل بل والهوية المغربية الثقافية لأنها تحمل في طياتها مشروعا ممانعا للمخطط الصهيوأمريكي الذي انطلق من عقاله بعيد الحادي عشر من سبتمبر
في مرحلة التهدئة هذه ترسخ في أذهان عموم الناس أن السلفية الجهادية بفعل حملات التشويه الإعلامية الممنهجة تيار يبني تصوراته العقدية على تكفير عموم المغاربة ويتخذ من العنف وسيلة لبسط سيطرته على المجتمع وأنه يخدم أجندات أجنبية ، فصار التمثل العام لمفهوم السلفية الجهادية أنه تنظيم قائم بذاته يملك قيادات وبرامج يسعى لتنفيذها والحقيقة التي نعلمها أن التيار كان خلاف ذلك وأنه لحاجة في نفس يعقوب أقنعوا الناس أن هناك تيارا يهدد استقرار البلاد يملك مقومات التنظيمات القتالية المعروفة على الصعيد الدولي ، كان الطريق حينها قد أضحي سالكا إلى 16 ماي وليس من المبالغة في شيء أن أقول أن الطريق إلى 16 ماي قد بدأ منذ 11 سبتمبر وأنه على مدار سنتين تقريبا كانت جهود تعبيده جارية على قدم وساق لتبدأ المرحلة الثالثة من مراحل الإجهاز على التيار السلفي وهي المرحلة الأكثر ضراوة وعنفا
30-01-2014