19-الوصول الى سرداب الظلمات(تمارة):
كانت السيارة تتقدم بسرعة مهولة و بعد مرور ساعتين تقريبا أحسست و كأننا دخلنا وسط غابة من الأشجار بحيث بدأت أحس بغياب الضوء الناتج عن أشعة الشمس و بدأت أسمع صوت أغصان الأشجار و هي تلامس سقف السيارة…. مرت حوالي عشر دقائق بهذا الشكل ثم توقفت السيارة لينزل السائق و بقية الحراس و بقيت وحيدا مصفدا و مغمض العينين. لكن مع مغادرتهم حاولت استغلال فرصة فتحهم للباب الخلفية لاستراق نظرة خاطفة على المكان.رفعت رأسي و أملته للخلف لأتمكن من الرؤية من خلال الفتحات السفلية ل -الباندا- فرأيت عجبا: روضة أغناء , أرضها معشوشبة و تحيطها أشجار باسقة متناهية الجمال.كان هذا المنظر الخارجي لكن هي في الواقع كجنة المسيح الدجال ظاهرها جنة وباطنها جحيم لا يطاق.
عاد -الفرعون- و بصوت الطاغية المستعلي المستكبر المسلط على الرقاب أمرني بالوقوف ,أمسكني من رقبتي كالشاة المنقادة الى الذبح -قبحه الله- و بدأ يدفعني الى الأمام وأنا منحني كما يكون الراكع.كان يقولي لي انحن المكان منخفض و الحقيقة أنه كان كاذبا انما غرضه أن يسلمني الى بقية الجلادين منحنيا زيادة في اهانتي و اذلالي….
لما وصلنا الى مدخل البناية بدأنا نتقدم نزولا و كلما تقدمنا خطوة الا و زاد الظلام و انخفضت حرارة الجو لكن المرعب هو صرخات المعذبين التي تنبعث من هنا و هناك و تزرع الرعب في قلب كل وافد جديد……
20:
سلمني -الفرعون- الى أحد رواد المقر و قال له : خذ الحاج هانا جبتلك واحد آخر … بعد سماعي لهذا اللقب استبشرت خيرا و قلت الحمد لله هذه بشارة خير أن يكون أول من أتعامل معه حاجا,تغافلت عن كل الماضي المرعب مع سابقيه و عن الجو اللاانساني الذي يطبع هذا المقر و أملت خيرا في -الحاج- لكن مباشرة بعد أن أمسكني هذا الحاج المزيف تبددت كل الآمال و علمت فيما بعد أنهم كلهم حجاج و أن أقسى و أبشع ما أنجبت البلد هم الحجاج الذين يؤدون مناسكهم بسحل و جلد و تعذيب الناس في تمارة. أمسكني -الحاج- من رقبتي و أمطرني بوابل من الشتائم و الاهانات.كانوا يضعون مكتبا لهم في المدخل يسجلون فيه المعلومات الشخصية لكل وافد جديد و يأخذون بصمات أصابعهم العشرة.أزال الأصفاد من يدي و أخذ معلوماتي و بصماتي و بعدها اضطرني الى مكان قبالة الحائط أجلسني على ركبتاي و أمرني برفع يداي الى السماء و مباشرة وجه لي من الخلف صفعة قوية أحدثت طنينا في أذني و نهرني قاائلا -:دير لمك الشمس ديال بني ملال المفرطة الحرارة….(كان يقصد أن أرفع يداي بقوة مع تحريك الأصابع بسرعة تمثيلا لأشعة الشمس) ظللت بهذا الوضع المزري لأكثر من نصف ساعة و كلما تعبت و هممت بانزال يدي الا و يباغتني احد ال-حجاج-بالصفعات.نصف ساعة ساوت في عذابها كل ما مر و كل ما تلقاه هذا الجسد الضعيف من عذاب فيما قبل.
21-سرداب الظلمات (تمارة):
جاء الفرج لأستريح من الوضعية المؤلمة التي ألزمني بها حجاج تمارة.أمرني -حاج- بصوت آدمي يختلف عن أصوات الآخرين بالوقوف و مرافقته لأغسل يداي من أثر المداد الذي بقي على أصابعي بعد أخذ البصمات.من عادة -الحجاج-أن يمثل واحد منهم دور الناصح الأمين المتعاطف و المتألم لحال المعتقل و قد تكرر هذا الأمر في كل محطات الاعتقال بشكل متشابه,لكن مع ذلك انتهزت الفرصة و دار بيني و بينه الحوار التالي:
-أنا:السي الحاج ممكن سِؤال؟
-الحاج:اسكت هنا لا كلام ممنوع الكلام.
-أنا:لكن أنا أريد أن أسألك فقط.
-كل شيء ممنوع حتى السؤال.
و بعد لحظة بعد أن غلبه فضوله خاطبني قائلا: لقد ألقيتم بأنفسكم في واد عميق لا قعر له.
– لكن أنا لم أفعل شيئا ما الذي يحصل معي ؟؟؟
الحاج: ما سؤالك؟
-أنا: ما السبيل للخلاص من هول هذا المكان؟
-الحاج :أخبرهم بما يريدون و ستنقذ نفسك.
-أنا:حاضر هذا ما أعتزم فعله (كان عندي الأهم هو الخلاص من جحيم تمارة حتى لو كلفني الأمر الاعتراف بأمور لا علاقة لي بها).
أحسست به و قد انتفخ صدره من نشوة الانتصار.غسلت يدي و بعدها أخذني الى مكتب واسع أرضه خشنة غير مبلطة و به محققين كل مجموعة تحقق مع معتقل و الصرخات و الآهات تعم المكان.
قال الحاج الذي يرافقني لأحدهم:-الحاج راه هذا بغا يعترف بكلشي.
أجابه الثاني قائلا:-مزيان ديه ياكل و جيبوا.
اللحظات التي عشتها بهذا الجحيم و الهول الذي رأيته و سمعته و تعرضت له يجعلني أجزم أن أغلبية الموقوفين اعترفوا على أنفسهم بجرائم لا علاقة لهم بها ناهيك عن التلفيقات و الفبركات المخابراتية التي دفنتهم أحياءا بين الأسوارلسنوات و الى الله المشتكى.
22-أهوال تمارة:
أعادني -الحاج- الى مكاني السابق و من فضل الله تعالى علي أنه لم يعدني الى الوضعية السابقة التي كنت عليها(شمس بني ملال ههه),تمكنت من الجلوس بوضعية مريحة نسبيا لكن المحيط حولي كان كله يبعث على الرعب , قدر الله أن من كان يحذرني من -تمارة- هو من يجلس قبالتي مباشرة (ادريس.ر),كان يتألم و يئن رغم ما عهدته عليه من جلد و صبر,رفعت رأسي قليلا لأرى ان كانت أظافره قد قلعت أو ان كانت تظهر عليه علامات اخرى لما مارسه عليه الحجاج.
-ادريس- كان آية في الصبر,كانوا بولاية فاس يوشكون على القضاء عليه و مع ذلك يغيضهم صبره , من الطرائف أن أحدهم في يوم ما ضربه بقوة على معدته فتأوه الشاب من شدة الألم بشكل أغاض من ضربه فقال له:كتلذذ أولد الحرام .ثم انهال عليه بالضربات و الركلات.
ما عرفته على -ادريس-(حفظه الله) طيلة أيام عشرته بولاية الأمن بفاس و ما شهدته من الحالة التي أوصلوه عليها بتمارة جعلني أرتعب و أتوقع مشهدا مشابها يحدث معي, لكن رب ضارة نافعة, فهذا الأمر جعلني مرة أخرى أوطن نفسي لاستقبال الأسوأ و أهيؤها لتلقي الصدمات.
أحسست بآهات ألم تأتي من مكان آخر ليس بالبعيد فأدرت وجهي نحوه لأرى شابا آخر متمددا على ظهره يتألم و يئن و لاحظت أن أسنانه الأمامية قد كسرت.علمت فيما بعد أنه الشاب-محمد مرجان- و الذي كسرت أسنانه ابان مرحلة الاعتقال ,قدر الله لنا ان نتشارك زنزانة واحدة في سجن سلا المعروف ب-الزاكي-.
سمعت أحدهم ينادي بصوت خافت: -أعمي الحاج.عمي الحاج…
-مالك شنو خاصك.
-بغيت نمشي للطواليط.
الحاج :-ديرها فحوايجك اولد الحرام.
كان فتى صغيرا اعتقد ان عمره لم يكن يتجاوز 16 سنة للأسف.
كان المشهد خطيرا و مرعبا لن أستطيع وصفه مهما حاولت ,كنت أحس أن الحجاج يتنقلون بين السراديب و كأننا في مغارة كبرى تتخللها حفر جانبية أو مغارات صغرى في كل جانب ,في كل مرة كنت أسمع صوت نوافذ حديدية تسحب ثم صوت -الحاج-ينادي على المعتقل و يأمره بالوقوف.و كأن الموقوفين قد حشروا في صناديق حديدية كما يحدث مع حيوانات السيرك.لكن العجيب و الغريب هو أمر الأكل و الشرب كما سيأتي لاحقا.
23-شعار تمارة الخالد-كول باش تقول-:
وجبات الطعام التي كانت تقدم لنا كانت من الطراز الرفيع-خمس نجوم- .كل معتقل كان يأتيه نصيبه ملفوفا في ورق الألومنيوم و يحتوي على كل ما لذ و طاب من اللحم و الفواكه و السلطات و المشروبات……
دخلت تمارة صائما لكني لم أقوى على اتمام اليوم ,وجدت نفسي بين حجاج لا يفارق ألسنتهم سب الدين و الذات الالهية و الكلام الساقط فخشيت ان اخبرهم بصومي فأواجه بالسخرية و الاستهزاء.ثم هم قدموا لي وجبة مغرية كانت عبارة عن قطعة كبيرة من سمك لأول مرة أتناوله في حياتي و سلطات متنوعة و خوخة بحجم رأس ابني حسام….
وضع لي الحاج الطعام على الأرض و أمرني بالأكل.لحظة الأكل كانو يحاولون اخماد كل الأصوات كي يسود جو من الهدوء و تنفتح شهيتنا للأكل كانت مراسيم الأكل خاصة جدا حتى معاملتهم اللانسانية كانوا يؤجلونها لما بعد الوجبات.
لحد هذه اللحظة معرفتي بتواجدي بتمارة كانت مجرد شكوك تراودني لا تصل الى درجة اليقين خصوصا بعد ان لاحظت الوقت القياسي و الوجيز الذي قطعته بنا السيارة بين مدينة فاس و تمارة.كنت اعتقد اننا لا نبعد كثيرا عن فاس لكني تيقنت لما أعطوني علبة الحليب في اليوم الموالي فوجدت مكتوبا عليها مدينة الرباط.
وجبات الطعام هذه لم يكن تقديمها لنا نابعا من جود و كرم حجاج تمارة بل لو كان الأمر حسب هواهم لأطعموا لحمنا نحن للتماسيح التي كانوا يهددوننا بجعلنا طعاما لها أثناء التحقيقات.
الواقع هو أنهم كانوا يجهزوننا للجلد و السياط و الركل و اللكمات و كل أنواع التعذيب التي برعوا فيها فقد كان شعارهم الخالد هو.
كول باش تقول.
24-بداية التحقيقات ب-تمارة-:
تناولت وجبتي و تراجعت قليلا الى الخلف,رغم ان الطعام كان شهيا و مغريا الا أنني اكتفيت منه بلقيمات أقيم بهن صلبي ,صفدني الحاج مجددا من الخلف -بعدما كان قد حرر يداي للأكل- و أمرني بالاتكاء على الحائط لأسترجع أنفاسي و أرتاح من عناء ووعثاء أقبح سفرخضته في حياتي ,فالتحقيق يحتاج في البداية الى تركيز جيد من الموقوف لهذا كانوا يؤكدون على اخضاع اي موقوف لفترة وجيزة من الراحة قبل اقتياده الى مكتب التحقيق و عند انتهائه يخرج بانهاك أكبر و كدمات و رضوض و ربما كسور…
أحسست بغياب -الحاج-لبضع دقائق و بعدها جاء و أمرني بالوقوف.اقتادني في ممر طويل,ضيق و مظلم و بعد ثواني أشرفنا على قاعة أرضيتها -كما يظهر من خلال شقوق-الباندا– خشنة و غير مبلطة تنبعث منها أصوات و صرخات و في جوانبها ربما ثلاث مكاتب للتحقيق لا يفصل بينها اي حاجز,في كل مكتب محققان كان أحدهما-حسب ما حدث معي شخصيا-يكتب التحقيق باللغة العربية و الآخر يترجمه في نفس الوقت الى اللغة الفرنسية.
قدمني مرافقي اليهم قائلا :-السي الحاج هذا راه باغي يقول كلشي -و قد كنت قررت في قرارة نفسي أن أعترف لهم بما يشبع زورهم و بهتانهم للنجاة من هذا الجحيم حتى و ان كلفني الأمر اقامة-ظننت للأسف أنها لن تطول- في السجن.
رد عليه الحاج ساخرا:-شغلو هداك يلا ما تكلمش ما يلوم غراسو,
قبالة المكتب أجثوني على ركبتي علىى تلك الأرض الخشنة و كعادتهم ركزوا على أن يطبعوا المشهد من بدايته بالرعب فبادرني أحدهم بسؤال لم أتوقعه و لم يكن لدي جوابه فقال لي:-يوم ذهبت انت و صديقك لجلب نتائج نهاية السنة من مركز تكوين المعلمين بالعرائش اين بتم؟؟؟؟
تتعتعت قليلا في الجواب ثم قلت له لا أذكر و فجأة قام الاثنان من مكتبهما و بدءا يضربان على كتفي و يقولان :- ها هو ولد الحرام بدا بالكذوب
يقولان هاته الجملة و يكررانها بصوت مرتفع و كأنهما يناديان على باقي المحققين
و فعلا استجاب الباقون و تركوا مقاعدهم و بدؤوا يحومون حولي و يصرخون :-ولد … كيكذب -ديو مو للتمساح -ديرولو الضو- أرا داك البانس -زولوليه يديه …..
يدورون و يصرخون مهددين و متوعدين في مشهد كتلك المشاهد التي نراها في الأفلام التمثيلية لآكلي لحوم البشر حين يمارسون طقوسهم قبل تناول الضحية المغلوب على أمره ,,,,,,
يتبع بإذن الله…