هذه مظلمتي… بقلم المعتقل الإسلامي السابق الأستاذ هشام بن موسى -الجزء الثامن-


28-نماذج من العذاب النفسي بتمارة:

كان بامكاني أن أخرج من ذاك الواقع المظلم بتمارة في اطار صفقة. لكنها كانت جد مكلفة و كلفتها لا تقتصر فقط على ما يمكن أداؤه في الدنيا.بل كانت اللعنات ستلاحقني في الدنيا و الآخرة لو أني وافقت على هذه المقايضة.فقد كانت الصفقة تقتضي -كما عرض علي حجاج تمارة- الافراج الفوري عني في مقابل الاندساس وسط الشباب و جس نبضهم -على حد تعبير المحققين بالضبط- حتى اذا ما ظهر لي ان هناك من زاد التزامه و تدينه عن الحدود المقبولة لديهم أدلهم عليه فأكون بذلك قد أسلمت بريئا مظلوما الى العذاب.و طلب مني كبادرة حسن نية أن أرافقهم الى حانة و أحتسي الخمر و أبيت في أحضان خليلة يقدمونها لي كعطية من العطايا التي ستنهال علي بعد خروجي….ثبتني الله تعالى بأن أجبتهم أني لا أصلح لمثل هذه المهمات و لست أهلا لها فكان جوابهم مزيدا من الترهيب و التعذيب .


بعد هذه الواقعة من الله علي بصفة اعتبرتها من الكرامات .فقد كان العذاب النفسي الذي يحدثه صراخ المعذبين عميقا و كبيرا في قلبي لذلك و في أي وقت كان يبدأ صراخهم في التعالي كنت أضع راسي على المخدة فأنام مباشرة و بفضل الله لا أستيقظ حتى يكون قد انتهى كل شيء.و كان المحققون يتعمدون أن يعم الصراخ المكان و يتعالى حتى ينال كل معتقل نصيبه من العذاب النفسي حتى و ان كان جالسا في زنزانته.كما أنهم كانوا كلما جاؤو لجلب أحد الموقوفين للتحقيق يبدؤون بالصراخ و الضرب بالعصي على كل الأبواب الحديدية و السب و الشتم و التهديدات.اضافة الى أن الكثير من المعتقلين كانوا مذهولين و مندهشين و مرعوبين لم يفهموا أبدا كيف أوصلتهم الأقدار الى هذا المكان المعتم فكان البعض منهم لا يجد طريقا للتعبير عن أحاسيسه الا العويل و البكاء و استجداء العطف و الرحمة من أناس لا رحمة في قلوبهم.

29- مقبرة الأحياء:

يقولون أن السجن مقبرة الأحياء و لو عرفوا -تمارة- لسموها جحيم السجناء .و قد كانت فعلا جحيما بكل الحمولات المعنوية للكلمة.

فزنزانتي مثلا كانت غرفة ضيقة محكمة الاغلاق من كل الجهات,أربع حيطان تتخللهم فتحة في الأعلى يسمونها هم نافذة لا يتجاوز طولها 40 سنتيميترا و عرضها 15 سنتيمترا.كانت هذه الفتحة هي المتنفس الوحيد الذي تتسلل منه أشعة الضوء الخفيفة لتبدد القليل من عتمة المكان.

قبل الاتيان بي الى هذا -القبر- كنت حديث عهد بزواج , زوجتي التي لم يكن عمرها يتجاوز حينها 15 سنة لم يكتب لي و لا لها أن نأنس ببعضنا و لو شهرين كاملين , كنت كثيرا ما أنظر الى تلك الفتحة المضيئة فيتمثل لي وجهها كئيبا عابسا و حزينا فأحادثها حديثا قلبيا و أخبرها أن ما نحن فيه قدر من الله لا مفر منه و لم يكن بسبب جرم اقترفناه انما هو ظلم حل بنا و لست أدري أيتها -المظلومة مثلي- ان كنت سأغادر هذا المكان حيا فيكتب لنا لقاء جديد أو أن -الحجاج- سينفذون في حقي وعيدهم و تهديدهم فأنتقل من مقبرة معنوية الى مقبرة حقيقية و حينها الملتقى الجنة باذن الله.


شكل حيطان الزنزانة كان يزكي تخوفاتي,فبقع الدم في كل مكان تدل أن المكان قد سبقني اليه مظلومون كثر ، بل آيات قرآنية و أحاديث نبوية تحث على الصبر و تبشر الصابرين قد كتبت بالدم فالمساكين كانوا يستعملون ما كان ينزف من أجسادهم من الدماء جراء التعذيب حبرا لا يزال شاهدا على وحشية الجلادين في حقهم لحد الساعة.


بوابة الغرفة كانت مشكلة من حديد صلب و سميك محكمة الاغلاق ليس بها أي فتحات باستثناء فتحة صغيرة في حجم العينين تفتح و تغلق بمزلاج حديدي كان يستعمله المحققون في مراقبة النزلاء داخل زنازينهم و كانوا أحيانا يتصادفون معنا عراتا و نحن نقضي حاجتنا في الخلاء.لأن الخلاء كان عبارة عن حفرة في جانب من الغرفة لا يفصلها أي صور أو حاجز عن البوابة أو عن مكان النوم الذي كان عبارة عن لحيفة و مخدة فقط دون غطاء.


هذا ما عشته شخصيا و هو نزر يسير مما عاشه العديد من الأبرياء قدر الله لنا و لهم أن نكون كبش فداء لعمل اجرامي أدناه و رفضناه لكن كنا أول ضحاياه للأسف.و مع ذلك سأحاول أيها الأكارم أن أخرجكم من الحديث عن هذا السرداب المظلم لأن سيرته فقط كفيلة بأن تحدث الهم و الغم في أنفسكم و تدخل الكآبة على قلوبكم و الله يشهد أن هذا لم يكن غرضي من البداية بل كل ما أرومه هو تقديم شهادة دقيقة لا زيادة فيها و لا نقصان من قلب المعاناة على مرحلة وصمت تاريخ بلدنا العزيز بالعار. و الأمل في الله ألا تتكرر.


سأحاول في الحلقة أو الحلقتين المقبلتين اغلاق هذا الفصل و الدخول بكم في فصل جديد لا يقل ألما و معاناة عما سبق……

يتبع بإذن الله…

شارك هاذا المقال !

لا توجد تعليقات

أضف تعليق