هذه مظلمتي… بقلم المعتقل الإسلامي السابق الأستاذ هشام بن موسى -الجزء التاسع-


30-آخر العهد بجحيم -تمارة-:

كما وعدت في المشاركة السابقة سأحاول أن أغلق فصل -تمارة- و البدء في فصل جديد يحمل وقائع أليمة بلون آخر. لكن قبل ذلك هناك نقاط لا يجوز اغفالها و نحن نغلق هذا الباب. منها :
-حرص المحققين -الحجاج -على عدم تعرف الموقوفين على أي جزئية من الجزئيات التي تشكل هذا المحيط الظالم المظلم كوجوه الجلادين و شكل قاعات التحقيق- التعذيب- و أسماء المحققين الذين كانوا ينادون بعضهم بكلمة الحاج فقط و التي ستعوضها كلمة -العلوي- لاحقا عند دخول مرحلة الحبس الفعلي. و من الحوادث التي تؤكد هذا الكلام أنه في أحد الأيام و هم يعيدونني بعد جلسة التحقيق ارتخت -الباندا- و كادت تسقط عن عيني فالتفت الي -الحاج- و بحركة سريعة أعادها و قال لي:
-والله لو كانت طاحت عمرك ما تشوف الضو…..
– الأمر الثاني الذي أثارني هو أن -الحجاج- رغم ما عانيناه من عذاب على أيديهم الا أنهم لم يكونوا راضين على العهد الجديد و في قلبهم حنين لسنوات الرصاص و قد أقر لي بهذا الأمر واحد منهم بعدما استشاط غضبا حين رأى هدوئي في التجاوب معهم و اقترب مني ليسر لي في أذني قائلا:
– احمد الله جيتي فهاد المرحلة والله لو كون جيتي فالعهد دالحبيب ديالنا ما نعصبو راسنا معك غخنشة دالسيما و سلسلة دالحديد و من هنا للبحر مباشرة…..
-الأمر الثالث هو أن رواد -تمارة – جلهم ان لم أقل كلهم من المختارين بعناية لأداء هذه المهمة و ممن يتصفون بسادية تجعلهم يتلذذون بعذاب الناس و منهم من يمثل دور الطيب الناصح الأمين حتى اذا ما وصل لمبتغاه انقلب الى وحش كاسر يكسر و يهشم عظام المقهورين المستضعفين.
مرت علينا أيام و ليال تفوق في سوادها ظلمات الليالي لكنها و بفضل الله أصبحت الآن مجرد ذكريات و هي عند الله في سجل لا يمحى حتى يقتص من الظالم و يؤخذ منه حق المظلوم.
جاء يوم الفرج حتى و ان كان جزئيا بمغادرة -تمارة- الى محبس غيره .نودي علينا كل واحد باسمه و تم صفنا كل واحد بجانب الآخر وقوفا و رؤوسنا باتجاه الحائط .سررت بعدما علمت أن من يقف بجانبي هو صديقي و زميلي في الدراسة و العمل عادل بركوطة و بدأت في الانشاد بصوت خافت و إحداث بعض الحركات لأوحي له أن المرحلة الصعبة قد مرت و أن القادم أجمل باذن الله تعالى. كانوا ينادون علينا الواحد تلو الآخر و عندما جاء دوري جرني أحد المحققين و أزال الأصفاد من يدي و رفع الغطاء عن عيني قليلا ثم أمرني بتوقيع محضر أقوالي و الذي لم يسمح  لي بقراءة و لو كلمة منه .مع ذلك وقعت مضطرا و سلمت أمري لله.
توقيع المحاضر كان يصاحبه جو من الترهيب والوعيد و الشتائم بأقسى العبارات و أقبح الأوصاف لكنهم -للأسف- قوم ألفوا القذارة.
بعد انتهاء المهمة كانوا يقتادوننا الى الخارج كالقطعان و رؤوسنا مطأطأة ليحشرونا بعد ذلك في سيارة الترحيلات مزدحمين جالسين في وضعيات مرهقة و لن أنسى منظر السيد- المحجوب نونس- الذي كان يعاني حينها من مضاعفات السكر و السمنة و الذي ظل يشتكي طيلة الطريق و جسده يرتجف من الألم و المعاناة لكن دون مجيب بل كان الجواب بالسب و الشتم و التشفي…
و نحن في السيارة كنت أحيانا أمسك بيد صديقي عادل و أضغط عليها و أسر له ناصحا اياه بالصبر و مبشرا بالفرج القريب. فقد كان مجرد خروجنا من جحيم تمارة أحياء أكبر نصر لنا و فرج من الله.

31- فصل جديد من المعاناة:
كنا نتوقع أن خروجنا من المعتقل السري بتمارة سيمثل نهاية للمعاناة لكن خابت آمالنا و أيقنا أن هناك تغير في الأماكن فقط أما -الحجاج- فهم هم أنفسهم و المعاملة هي نفسها.
توقفت بنا السيارة بالقرب من محكمة الاستئناف بالرباط و أحاط بها مجموعة كبيرة من الأشخاص المسلحين و بدأوا في إنزالنا الواحد تلو الآخر و اقتيادنا الى غرفة ضيقة توجد بقبو المحكمة. كانت هذه العملية تتم في جو من الرعب و السباب و الشتائم و كان -الحجاج- المرافقون لنا كلما مر عليهم أحدنا يشبعونه ضربا و ركلا و صفعا فلا يدري المسكين مصدر الضربات و لا السبب .و كان الجلاوزة يقهقهون و يضحكون وهم يشاهدون منظر شباب ضعاف مقيدي الأيدي و معصوبي الأعين ساقهم القدر غصبا حتى جعلهم بين أيدي أناس انتزعت من قلوبهم الرحمة و افتقدوا العدل في كل جزئيات حياتهم و كأنهم في حفل بهيج……
في تلك الغرفة الضيقة المظلمة و الباردة أجلسونا على مقاعد اسمنتية طويلة و كلفوا بعضا من -حجاجهم- بحراستنا. كان هؤلاء أيضا يتفنون في إيذائنا و إهانتنا وسبنا بأبشع العبارات حتى أنهم أحيانا كانوا يسبون الدين و الذات الالهية قصدا زيادة في استفزازنا و جرح مشاعرنا. التي لم يتركوا فيها أصلا مكانا لجرح.
تركوا الأخ عبد القادر التيجاني خارج الغرفة لأنه صائم و كان قد ادخر ما قدموا له من غذاء ب-تمارة- لإفطاره لكن المسكين لم يسلم أيضا من بطش-الحجاج- الجدد بل نال النصيب الأوفر من الاستهزاء و الشتائم و حتى الضرب حيث كنا نسمع صراخه أحيانا .
مرت ساعة من الانتظار تقريبا و أثر برد المقاعد في أجسادنا و بعد لحظات بدأوا في اقتيادنا للاستنطاق الواحد تلو الآخر. وصل دوري لأخضع لاستنطاقهم الذي عرفت فيما بعد أنه ليس سوى إجراء شكلي و مسرحية محبوكة الفصول .أما ملفنا الذي سنقبر بسببه فيما بعد فقد كتب و ألف بأيادي أخرى و هو جاهز ينتظر البث فيه.

32- قاضي التحقيق:

عبد القادر الشنتوف قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بالرباط و المكلف بملفات الارهاب من أكبر مزوري البلد و الذين سيذكرهم التاريخ لاحقا و ستعطى بهم العبرة -بإذن الله- كنموذج للإنسان الظالم الذي دمر آلاف الأسر و العائلات بجرة قلم.
و أنا إذ أذكر اسمه لا أتكلم من فراغ بل أنا واحد من بين الآلاف من ضحاياه و قد كنا في الزنازن نتكلم عن حيله و خدعه و الضغوطات التي كان يمارسها في حق المستنطقين لإجبارهم على الاعتراف كليا بمحاضر الزور التي لفقت لهم حيث أنه غالبا ما كان يهددنا بإعادتنا الى -تمارة- و أحيانا يهددنا بإغراقنا في غياهب السجون لسنوات بل حصل أن أخرج مسدسه من جيبه و هدد أحد الموقوفين بقتله …..
لما جاء دوري أدخلوني في البداية الى مكتب يوجد بالطابق السفلي من المحكمة حيث تم أخذ معلوماتي الشخصية و بعدها أعادوني الى الطابق العلوي حيث مكتب قاضي التحقيق لبداية التحقيق التمهيدي .
لما وصلنا الى بوابة المكتب قام المرافق بإزالة الغطاء عن عيني و الأصفاد من يدي و كانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها النور بعد -تمارة- و في رمشة عين باغتني بمجموعة من الأسئلة -و الله يشهد- كانت كلها لتهم ملفقة نفيتها جملة و تفصيلا لكن القاضي لم يلتفت لنفيي فقد كنت وحيدا لم أستفد من حضور المحامي الى جانبي ليثبت أقوالي فمرر القاضي الأمر كما يريد هو و قال لكاتبته -المطيعة- اكتبي ما يلي:

-و قد أقر المدعو -هشام بن موسى بكل ما نسب له في ملف الشرطة القضائية جملة و تفصيلا و قال أن هؤلاء تعاملوا معه معاملة حسنة و لم يتعرض لأي تعذيب.

هذه الجملة كانت لازمة يحفظها القاضي عن ظهر قلب و يكررها في كل المحاضر.

قرر القاضي -ظلما- إيداعي بسجن سلا 2 -الزاكي- لتعميق البحث معي .نظرت إليه نظرات كلها حسرة و ألم على وطني أولا الذي لن يتقدم أبدا في ظل استمرار مثل هذه الممارسات ثم على نفسي التي قدر لها أن تكون ضعيفة و منقادة لظلم شخص مثل هذا الذي ذكرت.
لكن الحياة ممر و لكل شيء فيها نهاية  فويل لقاضي الأرض من قاضي السماء و الحمد لله الذي قدر لي أن أكون مظلوما و لا أكون ظالما.

يتبع بإذن الله…

شارك هاذا المقال !

لا توجد تعليقات

أضف تعليق